سوف نعيش مع آية عظيمة من آيات الله تبارك وتعالى تتجلى هذه الآية في عالم البحار والأنهار. يقول تبارك وتعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) [الفرقان: 53]... |
إنها آية عظيمة حدثنا فيها الله تبارك وتعالى عن حقيقة علمية موجودة بين النهر والبحر، في المنطقة التي تسمى منطقة المصب (أي مصب النهر في البحر) إنها منطقة حساسة جداً ومهمة جداً، ولم يدرك أهميتها العلماء إلا حديثاً، في السنوات القليلة الماضية.
فقد قام علماء من الولايات المتحدة الأمريكية ببحثٍ حديثٍ جداً قبل أشهر قليلة في دراسة هذه المنطقة، أي المنطقة التي يصب فيها النهر العذب في البحر المالح، وقد نزلوا بأجهزتهم إلى أعمق نقطة في منطقة المصب، وطبعاً جميع الأنهار كما نعلم تصب في البحار، فكل نهر له منبع ينبع من منطقة معينة ثم يسير ثم ينتهي عند البحر حيث يصبّ هذا الماء العذب ويخترق الماء المالح لعدة كيلو مترات ويقذف مياهه في البحر المالح.
والظاهرة التي حدثنا عنها القرآن أنه على الرغم من تدفق الأنهار العذبة إلى البحار المالحة لا يحدث أي طغيان لهذا على ذاك، أي أن البحر المالح على الرغم من ضخامته لا يمكن أن يطغى على النهر أو يجعل ماءه مالحاً.
وطبعاً هذه الحقائق لم تكن معلومة زمن نزول القرآن، بل استرعت انتباه العلماء حديثاً، بعدما حدث التلوث الكبير في البيئة وحدث التلوث في الأنهار أيضاً، كانت منطقة المصب هذه هي صمام الأمان لهذه المياه العذبة التي سخرها الله تبارك وتعالى لنا.
عندما قام العلماء بحساب كميات الماء الموجودة على سطح الأرض وجدوا أن هذه المياه 97.5 بالمائة منها مياه مالحة، واثنان ونصف في المائة هي مياه عذبة، وثلثي المياه العذبة يتركز في المناطق الجليدية، في القطبين الشمالي والجنوبي، أي 69 بالمائة من المياه العذبة موجودة على شكل مياه متجمدة، والثلث الباقي هو مياه جوفية ومياه موجودة في التربة، ورطوبة محمولة في الجو والغيوم وغير ذلك، ولا يوجد أنهار وبحيرات إلا أقل من ثلاثة بالألف من المياه العذبة، أي أن كل ما نراه من أنهار وبحيرات وينابيع جميعها لا تشكل إلا أقل من ثلاثة بالألف من المياه العذبة، والمياه العذبة لا تشكل إلا اثنان ونصف بالمائة من مجموع المياه على ظهر هذا الكوكب.
وفي رحلة بحث العلماء عن مصادرَ للمياه العذبة، كان لا بد من دراسة التلوث في الأنهار، التلوث الكبير الذي أحدثته مخلفات التكنولوجيا الحديثة. وكانت المنطقة المهمة جداً والحساسة جداً هي منطقة المصب بين النهر والبحر، فقام هؤلاء العلماء بدراسة هذه المنطقة دراسة دقيقة، وخرجوا بعدد من النتائج وربما نُذهب إذا علمنا أن الله تبارك وتعالى قد جمع كل هذه النتائج في آية واحدة، وذلك عندما قال: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً).
فالنتيجة الأولى التي وصل إليها هؤلاء العلماء: أن هذه المنطقة يحدث فيها تمازج مستمر للماء العذب مع الماء المالح، وهذا يعني أن الله تبارك وتعالى عندما قال (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي خلق البحرين (البحر العذب والبحر المالح ) وهنا لا بد أن نتعرف لماذا قال الله تبارك وتعالى (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) ولم يقل (مرج النهر والبحر).
فعندما درس العلماء هذه المنطقة أي منطقة المصب وجدوا أن هنالك تمازجاً واختلاطاً مستمراً للماء العذب مع الماء المالح، ووجد العلماء أيضاً أن هنالك اختلافات كبيرة في درجات الحرارة وفي نسبة الملوحة وفي كثافة الماء، في هذه المنطقة بالذات.
ونلاحظ هذه الاختلافات من خلال المنحنيات البيانية التي رسمها هؤلاء الباحثون فقد درسوا درجة الحرارة في منطقة المصب ووجدوا أن هنالك اختلافاً وفوارق كبيرة بين الليل والنهار ومن فصل لآخر. ووجدوا أن هنالك اختلافات في ملوحة هذه المنطقة بسبب اختلاط الماء العذب مع الماء المالح.
والشيء الجديد الذي وجده هؤلاء العلماء لأول مرة: أن طبيعة الجريان أي جريان الماء العذب داخل الماء المالح هو جريان مضطرب وليس مستقراً، والجريان المستقر يكون جرياناً صفائحياً لا توجد فيه اضطرابات، بينما الجريان المضطرب للماء يعني وجود دوامات وهنالك اختلافات في سرعة الجريان من نقطة لأخرى.
نستطيع أن نلخص بحث هؤلاء العلماء في ثلاثة نقاط أساسية:
أن منطقة المصب يتم فيها مزج دائم للماء المالح مع الماء العذب.
ويتم فيها اضطراب في الجريان.
وهنالك اختلافات كثيرة في الكثافة والملوحة والحرارة.
وعندما رجعت إلى قواميس اللغة لأبحث عن كلمة مرج (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ) وجدت أن هذه الكلمة تتضمن المعاني الثلاثة التي وجدها العلماء حديثاً. فمن معنى كلمة مرج (أي خلط ومزج). وهنالك معنى آخر (المرج هو الاختلاف أيضاً). والمعنى الثالث (المرج هو: الاضطراب ).
لذلك قال تعالى عن أولئك المشككين الذين هم في اضطراب من أمرهم (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) [ق: 5] أي مضطرب لا يستقر، أي أن كلامهم عن القرآن وتشكيكهم برسالة الإسلام أشبه بإنسان مضطرب لا يستقر ولا يستقيم (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي أمر مضطرب.
وهنا يعجب الإنسان المؤمن من دقة هذا التصوير الإلهي أن الله تبارك وتعالى اختار كلمة واحدة ليصف بها العمليات الفيزيائية الدقيقة التي تحدث في هذه المنطقة، ولذلك عندما قال: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) في كلمة مرج قمة الدقة العلمية.
ولكن السؤال لماذا قال: (الْبَحْرَيْنِ) ولم يقل (النهر والبحر) كما قلنا منذ قليل؟
عندما درس العلماء البحار وجدوا أن الأنهار ليست هي المصدر الوحيد للمياه العذبة هنالك في قاع المحيطات وتحت قاع المحيطات خزانات ضخمة للمياه العذبة تتدفق باستمرار من قاع المحيطات، وهذه الخزانات الضخمة يبلغ حجمها أضعاف ما يضخه النهر في البحر.
ف كل نبع في قاع المحيط يضخ كميات من المياه العذبة أضعاف ما يضخه ذلك النهر.
وهنا ندرك لماذا قال الله تبارك وتعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) لأن هنالك بحراً عذباً وخفياً لا نراه بأعيننا ولكنه موجود، وهذه المياه العذبة التي تتدفق من قاع المحيطات أحياناً تصل إلى سطح الماء، تسير آلاف الأمتار حتى تصل إلى سطح الماء، وتظهر لنا الأقمار الاصطناعية التي قامت بتصوير هذه المحيطات والخلجان بالأشعة تحت الحمراء تظهر وجود هذه الينابيع التي تمتزج بشكل دائم مع المياه المالحة.
إذا دققنا في هذه الصور نلاحظ أن ماء النبع العذب نجد أنه يتلون في الصورة طبعاً بلون آخر، يدل على أن هذه المنطقة تحوي مياه عذبة باردة، تكون عادة باردة. وهنا نجد الله تبارك وتعالى دقيق في تعابيره عندما قال (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي أن هنالك بحراً عذباً غير الأنهار التي نهراها، هنالك بحراً عذباً في قاع المحيطات، وهنالك بحراً مالحاً.
(هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) وهذه الكلمات الرائعة توقفت عندها طويلاً، وقلت لماذا قال الله تبارك وتعالى (هذا عذب فرات)، لم يقل عذب فقط، ولماذا قال (هذا ملح أجاج)، ولم يقل ملح؟
وهنا سوف نكتشف معجزة في هذه الكلمات الأربعة: عذب - فرات - ملح - أجاج
فمياه الأنهار ليست عذبة مائة بالمائة، إنما تحوي نسبة ضئيلة من الأملاح والمعادن وبعض المركبات الكيميائية. ومياه البحار أيضاً فيها ملوحة زائدة، فعني في كل متر مكعب من مياه البحر هنالك بحدود 35 كيلو غرام من الملح،هنالك ملوحة زائدة في هذه البحار لذلك قال الله تعالى: (وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ).
عن المياه العذبة لم يقل (هذا عذب) فقط، إنما قال (فُرَاتٌ) وكلمة (فرات) في اللغة أي: المستساغ المذاق، لو كانت مياه النهر عذبة مائة بالمائة ليس لها طعم، وليس لها أي شيء يستساغ، ولكن عندما تمتزج مع هذه الأملاح والمعادن إلى آخره فإنها تكسبها هذا الطعم المستساغ الذي نُحس به أثناء شربنا لهذه المياه العذبة.
عندما قال تبارك وتعالى (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) إنما تعامل القرآن مع قضية المياه بدقة علمية كبيرة، فعلماء المياه اليوم يصنفون المياه حسب درجة الشوائب التي فيها، أو الأملاح التي تحتويها، فالماء المقطر هو ماء عذب مائة بالمائة، والماء الفرات هو ماء الأنهار يحوي نسبة ضئيلة جداً من الأملاح لا نحس بها ولكنها موجودة، والله تبارك وتعالى عبر عن ذلك بكلمة فرات (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ). أما المياه الخاصة بمياه البحار: هذه المياه تحتوي كميات زائدة من الملح، لم يكن أحد يعرف ذلك الأمر ولكن القرآن وصف لنا بأن ماء البحر هو (مِلْحٌ أُجَاجٌ).
ولو تابعنا تدبر الآية الكريمة يقول تبارك وتعالى:
1- (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً) جعل بين البحر المالح والنهر العذب برزخاً: أي مسافة فاصلة يمتزج فيها هذين البحرين ولا يطغى أحدهما على الآخر، هذه المنطقة هي المنطقة الحساسة جداً التي سماها العلماء منطقة المصب. ولم يكن أحد يعلم شيئاً عن هذه المنطقة، يعني حتى كلمة (المصب) أو (منطقة المصب) تحديداً هذا مصطلح علمي حديث لم يكن موجوداً زمن النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يكن أحد يعلم شيئاً عن وجود برزخ أو منطقة فاصلة.
وبالفعل ثبت أن هذه المنطقة الفاصلة بين البحر المالح والنهر العذب، هذه المنطقة لها خصائص ولها ميزات ولها صفات تختلف عن كلا البحرين (العذب والمالح).
2- (وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي أن هنالك حجر أشبه بالجدار الذي يحجز ماء النهر عن ماء البحر، كأن هنالك منطقة محصنة وحجراً محجوراً أي حصناً منيعاً لا يسمح لأحد البحرين أن يطغى على الآخر، وهذا ما وجده العلماء حديثاً، ولم يتسرب الخلل إلى هذه المنطقة إلا عندما لوث الإنسان الأنهار ولوث البحار فاختل التوازن في هذه المنطقة.
اليوم يعمل العلماء على إعادة التوازن لمنطقة (المصب) بسبب حساسيتها وأهميتها البيئية، وهذا ما أخبرنا به القرآن عندما قال: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) يعني انتبه أيها الإنسان إلى أهمية هذه المنطقة، لا تلوثها لأن الله تبارك وتعالى جعلها منطقة توازن حساسة جداً، وهي تشكل مصدراً لك ولغيرك من المخلوقات التي تعيش في هذه المنطقة.
والآن نتساءل عن الهدف من وراء ذكر هذه الحقيقة العلمية في القرآن الكريم؟
لماذا حدثنا الله تبارك وتعالى عن برزخ، وعن ماء فرات، وماء أجاج وحجر محجور وامتزاج واختلاط واضطراب لماذا؟ إذا تدبرنا سورة الفرقان حيث وردت هذه الآية، نلاحظ أن الله تبارك وتعالى أحياناً يخبرنا عن الهدف من الحقيقة العلمية قبل ذكر الحقيقة، فقبل هذه الآية ماذا يقول تبارك وتعالى بعدما عدد آيات كثيرة عن البحار وعن المياه وعن الرياح وغير ذلك آيات كونية ذكرنا بنعمه عز وجل قال: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان: 52] هذه الآية ماذا تعني؟
تعني أن كل مؤمن مطلوب منه أن يجاهد في سبيل الله ولكن بما يتناسب مع العصر الذي يعيش فيه، فالقرآن الكريم ذكر الجهاد في كثير من مواضعه ولكن المرة الوحيدة التي ذكر فيها الجهاد الكبير كانت في هذه الآية.
يقول تعالى: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ) أي بالقرآن (جِهَادًا كَبِيرًا)، (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا) [الفرقان: 53] كأن الله تبارك وتعالى يريد أن يوصل لنا رسالة من خلال هذه الحقيقة الكونية، أنه سيأتي زمن يكون فيه الجهاد الكبير هو الجهاد بالعلم، الجهاد بحقائق القرآن، إذ أننا عندما نُخاطَب يقول الله تعالى لنا (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ) أي بالقرآن جهاداً كبيراً، كيف نجاهد غير المؤمنين بالقرآن؟ من خلال تعريفهم على حقائق القرآن.
وبما أننا نعيش عصر العلم وعصر التقنيات العلمية وعصر الاكتشافات العلمية فكانت أفضل وسيلة لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام هي لغة الحقائق العلمية التي أودعها الله في هذا الكتاب لأن الله تبارك وتعالى عندما حدثنا عن هذه الحقيقة إنما حدثنا لهدف وهو أن تكون هذه الحقيقة سلاح بأيدينا نحن المسلمين لدعوة غير المسلمين إلى طريق الله تبارك وتعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق